تعاني غالب البيوت من كثرة الأعباء وتزاحم الأعمال وتكالبها فغلب على تلك البيوت الشكوى من تتابع الأشغال ومضاعفاتها، والسعي إلى تخفيف ما أثقل كواهل البيوت من الأعمال.
ومع أن الله تعالى يسر لعباده التقنيات الحديثة لتخفيف تلك الأعباء إلا أن الشكوى لا تزال قائمة ظاهرة.
وإن مما يخفف تلك التبعات أن نجتهد في القيام بالتوكل على الله تعالى، فالثقة بالله تعالى والإستعانة به تمنح العبد قوة وطاقة تحقق إنجاز أعماله ومشاغله، وكما قال بعض السلف، من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله.
وكان سلفنا الصالح يستحبون قول: لا حول ولا قوة إلا بالله عند ركوب الأهوال، والحوقلة، كنز من كنوز الجنة، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وهي كلمة إستعانة، فلا تحول من حال الجهل إلى حال العلم إلا بالله، ولا تحول من حال الضعف إلى حال القوة إلا بالله تعالى، كما أن لا قوة على ذلك التحول إلا به سبحانه.
ولما كان السلف الصالح أعظم الناس توكلاً على الله تعالى، هيأ الله لهم من القوة والتوفيق ما كان سببًا في تحقيق إنجازات باهرة سواءً في العبادة أو العلم النافع أو العمل الصالح أو الدعوة أو الجهاد، أو التصنيف، أو نفع الناس والإحسان إليهم ونحو ذلك.
ولا غرو في ذلك فقدوتهم سيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم حيث كان أكمل الناس توكلاً، وسماه الله عز وجل المتوكل، ومن ثم حفلت سيرته العطرة بأكمل القربات والصالحات وأنفعها وأفضلها.
كم نحتاج -معشر أهل الإسلام- أن نتفقد أنفسنا وننظر في أعمالنا وأحوالنا، فهل إستعنا بالله تعالى وتعلقت قلوبنا به عز وجل؟ أم تعلقت بالأسباب وركنت إليها وأعرضت عن خالق الأسباب والمسببات؟
ما أكثر الذين يعرفون معنى التوكل وفضله ومنزلته، ولكن إذا عرض لأحدهم بلاء أو حلّت به نازلة أصابه الذهول وإضطرب توكله وضعف تعلقه بالله تعالى، وساءت ظنونه، وصار كالغريق يتعلق بأدنى الأسباب.
وكما قال بعض الصالحين: التوكل ها هنا في مواجهة الشدائد والسباع وليس في المسجد الجامع.
ومما غلب على كثير من المسلمين في هذه العصور: التشاؤم والتطير، فطائفة تتشاءم من أشخاص وأعيان، وطائفة أخرى تتطير من ساعات وأيام، وثالثة تتشاءم من أماكن وبلدان، وإستحوذ على البعض النظرة السوداوية التشاؤمية، فظهرت السلبية والتخاذل والعجز، واليأس، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل صارت بعض مجتمعات المسلمين مستنقعًا تعلق بها الخرافات والشعوذة والدجل.
إن التوكل على الله تعالى خير علاج في إزالة هذا التطير وما يلحق به من الإنخداع بالخرافات والأساطير، فقد جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطيرة شرك، الطيرة شرك» أخرج أبو داود والترمذي وصححه.
وبيّن ابن مسعود رضي الله عنه أنهم لما توكلوا على الله في جلب النفع، أو دفع الضر، أذهب الله عنهم ما قد يقع في قلوبهم من ذلك التطير.
واليقين بأن النفع والضر بيد الله تعالى، والإستعانة بالله وحده يحرران النفوس من رق الشؤم والخرافة.
ومما عمّت به البلوى في مجتمعات المسلمين، غلبة المصالح الدنيوية على الكثير من أهل الإسلام، فمن أجل الدنيا تقوم العلاقات أو تزول، فهم يحبون من أجل المال، ومن أجله يبغضون، وفي سبيل المنصب يوالون وفي سبيله يعادون.
وقد أشار ابن عباس رضي الله عنهما إلى تلك الآفة بقوله: من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس لأجل الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا -أخرجه بن جرير.
إن على الأسرة المسلمة أن تعني بتحقيق أوثق عرى الإيمان -الحب في الله والبغض في الله- فإن هذه الوشائج الإيمانية تبقى وتنفع وتدوم، وعلينا أن نجتهد في فقه هذا الأصل الكبير، فنحب في الله أهل الإيمان، ونقوم بلوازم هذا الحب من إفشاء السلام، وعيادة المريض، ونصرة المسلمين، والنصح والإشفاق عليهم، كما تبغض أهل الكفر والطغيان، ونحقق لازم هذا البغض من خلال مجانبة التشبه بهم، ومفارقة ديارهم، وعدم الركون إليهم.
وما أحوج أجيالنا إلى القيام بهذا الأصل، فلقد كان سلفنا الصالح يعلمون أولادهم محبة أهل الإيمان، كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: كانوا يعلمون أولادهم محبة الشيخين كما يعلمونهم السورة من القرآن.
وكما تربى الأجيال على محبة أهل الإيمان، فيجب تربيتها على مجانبة أهل الكفر والانحراف، ومما يحسن ذكره ها هنا ما حكاه محمد بن عمار بقوله: قدمت بغداد سنة 215هـ، وقد مات المريسي بها، والمريسي من رؤوس المبتدعة آنذاك وبقي في داره ثلاثة أيام لا يجسر أحد أن يدنو منه، حتى ذهبوا إلى السلطان فقالوا يجيف فيؤذينا، فبعث بشُرط، ورأيت الصبيان يرمون المريسي بالحجارة. ويقع على السرير -السنة للخلال 5/114.
وبالجملة فإن المقصود من هذه الأمثلة السابقة أن نذكّر أرباب وربّات البيوت، بتحقيق العبادات القلبية لله، بحيث يكون القلب منيبًا إلى الله تعالى وحده، وإن أحبّ فهو يحبّ الله ورسوله وما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهكذا يقوم بالقلب جميع العبادات القلبية كالخوف والتعظيم والإخلاص والرجاء وسائر العبادات القلبية، فإن القلب إذا ذاق طعم تلك العبودية أورثه رسوخًا وثباتًا على دين الله تعالى، وبصيرة تجاه النوازل والمشتبهات، كما أن تحقيق عبودية القلب سبب في الإستغناء عن الناس، وإنفتاح أبواب رحمة الله تعالى على العبد، والسلامة من الهوى والشهوات فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
الكاتب: عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف.
المصدر: موقع المختار الإسلامي.